حكايات الشاطر حسن

19.6.06

بين البحث والتشكيل






نماذج من أعمالي التي عرضتها في المهرجان

ورقة قدمتها في مهرجان المتنبي الشعري في محوره عن الشعر والتشكيل

في حقيقة الأمر لا أعلم علي وجه التحديد إذا كنت هنا بوصفي باحثا مهتما بأمور الثقافة العربية أم بوصفي فنانا تشكيليا له تجارب واهتمامات بالحرف العربي. فغالبا ما كنت أهرب - وما أزال- من انتمائي المطلق إلي واحد من هذين التصنيفين ، وإذا كان هذا الهروب بالطبع هو نوع من الحيرة في التحديد، فقد كنت لا أجد في معظم الأحيان حلا لحيرتي إلا الانهماك في العمل: سواء كان عملا تشكيليا أو بحثا أدبيا . غير أن دعوتي لهذا المؤتمر ( الشعر والتشكيل ) بوصفي باحثا وفنانا تشكيليا في الوقت نفسه وضعني قصرا في مواجهة هذه الحيرة . وعند تأملي لتنازع تلك القوة المتصارعة بداخلي بين الكلمة والتشكيل رأيت أنها تصلح مدخلا لدراسة علاقات الإحلال والإزاحة بين الكلمة والصورة في الثقافة العربية.تسعي هذه الورقة إذن إلي كشف النقاب عن العلاقة الملتبسة بين الكلمة بوصفها الممثل الأول للمقدس في الثقافة العربية وبين الفيجر التشكيلي المرقوش أو المنقوش أو المصور بوصفه أحد التابوهات التي أثير بعض جدل عن تحريمها من قِبل بعض الآراء في الثقافة العربية الإسلامية.وكما هو معروف تعطي الثقافة العربية الكلمة سلطة مطلقة، فقبل نزول الإسلام ، تسيد الشاعر بالكلمة قبيلته ، وامتلك سلطة ما تؤهله إلي الالتحاق بوجهاء القوم ورؤسائهم. ولم تكن القصائد المعلقات على الكعبة إلا إشارة لطغيان سلطة الكلمة في المجتمع العربي في ذلك الوقت. فقد كان القوم يتغنون بالشعر يتقوتون به وعلي موائده يلتفون.مع نزول القرآن وترتيل بعض آياته في البيوت والطرقات من قِبل المسلمين الأوائل بدأ ظهور نوع ما من علاقات الإحلال والإزاحة للكلمة الشعرية التي تملأ الأسواق ، فبدأت الكلمة القرآنية تمتلك السلطة وتُصبح هي سيدة الموقف ، إذ أنها عرضت نفسها بوصفها رسالة سماوية تحمل داخلها مقومات الأمر والنهي باعتبارها كلمة ربانية .
وأظن أن علاقة الإسلام والشعر التي شغلت القوم في قديم الزمان لا يجب أن تُفهم إلا في ضوء علاقات الإحلال والازاحة السالفة الذكر. فقد أزاح القرآن باعتباره النص المهيمن علي الثقافة العربية سلطة الكلمة الشعرية بل أكثر من ذلك أنه استعملها لخدمة تفسير آياته من خلال دعوة بن عباس الشهيرة إلي الرجوع لأبيات الشعر الجاهلي لتفسير بعض مفردات القرآن الكريم.وإذا كانت الكتابة و الأبجدية العربية جاءت متأخرة بعض الوقت عن باقي الأبجديات الأخرى لعدم اهتمام العرب الكبير بالكتابة في عصر الجاهلية وذلك لأن معظم القبائل العربية كانت من البدو ولم يكونوا في حاجة الى ثقة بالكتابة ، غير أنه بعد نزول القرآن الكريم ودخول الإسلام الجزيرة العربية أخذت الكتابة العربية مكانها بين القبائل وبالأخص عندما قرر الخلفاء الراشدون تدوين القران الكريم، وكان ذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان . ومع انتشار القرآن الكريم والدعوة الإسلامية في عموم الأقطار، انتشرت الكتابة العربية انتشارا واسعا، كما استعملت الكتابة العربية في لغات عديدة غير العربية منها الفارسية و الأفغانية و التركية. وما أريد أن أقف عنده في هذا السياق هو إن تدوين القرآن قد أحدث أمرين هامين: الأمر الأول : أنه أحدث نوعا من تدشين سلطة الكلمة القرآنية فأصبح القرآن هو النص الرئيسي المهيمن علي الثقافية العربية الإسلامية بكاملها . بل انه أصبح نواة لدوائر نصوصية كثيرة تتداخل فيها ملايين النصوص وتتشابك . أما الأمر الثاني: فهو أن تدوين القرآن قد أعطي للحرف العربي قداسة ما باعتباره حامل الرسالة المقدسة.فبعد أن أصبح الحرف العربي حرفا مقدسا ،أصبح الخط العربي هو فن الإسلام الأول .كما أصبح تاريخ الخط العربي هو تاريخ تدشين القداسة. وأصبحت حياة الخطاطين وأدواتهم محاطة بهالة من التقديس وهو ما نلحظه حتى الآن في معظم الكتابات المعاصرة عن الخط العربي.لقد احتل الحرف العربي وما زال مكانة خاصة في الحس والذوق العام في العالم الإسلامي، فالحرف إلى جانب كونه شكلاً فنياً ساحراً، هو أيضاً الوعاء الذي احتضن - عبر القرون - العقيدة الإسلامية، وهو اللغة التي ترجمت النفوذ والسلطة والعلم والشعر والفنون بكل أشكالها على مدى حقب تاريخية طويلة، وعلى مدى رقعة جغرافية امتدت حتى أطراف الصين وشطآن المحيط الهادي وأدغال إفريقيا. وبذلك فقد احتل الخط العربي مكانا كبيرا في الذاكرة البصرية للعرب والمسلمين فأصبح وجوده دائما يُذكر بهم حتى أنه قد تحول إلي رمز وعلامة تدل عليهم، بل أصبح حضوره طاغيا بوصفه علامة بصرية مقدسه تحيل إلي منظومة فكرية معينه.وما أريد أن أؤكد عليه أن الكلمة القرآنية لم تقم فقط بترويض الكلمة الشعرية واستخدمها كما قلت من قبل ، بل أنها فرضت سلطتها وسيطرتها أيضا علي شكل الحرف العربي . فعبر الأشكال والأنواع العديدة للخط العربي كان معني الكلمة القرآنية المقدسة هو المحرك الأساسي للشكل الجرافيكي عند الخطاطين الكلاسيكيين .وقد جاءت المحاولات الأولي للانفلات من تشكيل الكلمة وفقا لقداستها مع بدء ظهور كتابات الخطاطين لبعض أبيات الشعر العربي ، إلا أنها تخطيطات و كتابات وإن هربت من هيمنة القداسة ، فقد ظلت أسيرة لرصانة المعني وقيمته . وهو ما جعل تلقي هذه الأنواع من التخطيطات الشعرية يدور في أفق التوقعات التقليدي ، حيث أن التفات المتلقي للتشكيل البصري للكلمة يظل التفاتا هامشيا بجانب التفاته الرئيسي الموجه نحو تشكيل المعني الشعري للكلمة .وعلي الرغم من أن الخطاطين قد اجتهدوا في كتابة أبيات من الشعر بل وحتى قصائد كاملة علي أشكال بصرية عديدة كأشكال الطيور والخيول والحيوانات والأباريق وما إلي ذلك إلا أن الفرض القصري للشكل البصري في تلك الأعمال يصنع قدرا غير يسير من التشويش في عملية التلقي ويجعلنا نشعر بأن صناعة هذه الأعمال الفنية تسعي أولا وأخيرا إلي غاية تزينية استعراضية الغرض منها هو إبراز مهارة الفنان الخطاط . غير أن محاولات الشعراء أنفسهم كتابة قصائدهم في العصر الحديث أعطي العلاقة بين الكلمة- الصورة، الشعر-التشكيل بعدا آخر، ونقلتنا إلي أفق آخر من أفق التلقي المخالف للأفق التقليدي للتوقعات. وهو ما نشعر به علي سبيل المثال عند رؤية قصائد الشاعر الجرافيكي العراقي ناصر مؤنس " التعاويذي " الذي يُصر علي كتابة وتخطيط ما يمكن أن يسمي بالقصيدة المرئية. فالقصيدة المرئية من وجهة نظره ، قصيدة تدعو إلى تأسيس طبيعة لا كلامية للنص ، وبما أن أغلب نتاجنا الشعري ظل مطوقاً إلى عامل ينتمي إلى فن الإنشاد أو الغناء ، فأن من اللازم تحريره من سلطة { المغني } وتمكينه من استعادة دوره التدويني . وما دام الشاعر لا يحاكي المغني فإن التشكيل البصري هو الذي يؤسس لغة فاعلة وفضائية ، لغة قادرة على تحويل الكلمة لتحقق بطريقة سحرية ضرباً من إبداع يعود بالشعر إلى أزله . ومن وجهة نظري فإن محاولات الانفلات الكامل من سيطرة معني الكلمة والاهتمام الكبير بتشكيلها البصري لم يظهر إلا مع ما يسمون في تاريخ الفن التشكيلي العربي بالحروفيين العرب. وكما هو معروف فالحركة الحروفية العربية مرحلة من مراحل التشكيل العربي والإسلامي انتشرت من اندونيسيا الى بلاد المغرب, وقد كانت استجابة لبحث ما عن هوية عربية تشكيلية , ولا أريد هنا أن أشير إلي نشأة الحروفية وإلي مدارسها الكثيرة ، غير أني أريد فقط أن أشير إلي أن الحروفيه العربية استخدمت الحرف العربي بطرق متباينة تباينا شديدا ، فالاستعمالات تندرج ابتداء من استخدام الحرف بوصفه موتيفا تشكيليا جرافيكيا بحتا منقطع الصلة بما يحمله داخله من موروث ثقافي، إلي استلهام المعاني الباطنية أو الصوفية للحرف العربي مما يفتح أفاقا جديدة لإنتاج اللوحة وتأويله علي حد سواء ، نهاية إلي الانزلاق والتوجه التام لاستخدام الحرف العربي في التزيين الفلكلوري الذي يستغل استغلالا سيئا تعلق الأفئدة بالموروث الثقافي . وعلي أية حال فإذا كانت الحروفية التزينية هي انتكاسة تشكيلية حقيقية في تطور المفهوم التشكيلي للحرف العربي فإن الحروفية في أحسن أحوالها ونماذجها الناجحة كانت محاولة جادة وأصيلة لاسترداد السلطة التشكيلية للحرف العربي في الثقافة العربية .في النهاية أريد - علي استحياء - أن أشير إلي تجربتي الشخصية في التعامل مع الحرف العربي في أعمالي الجرافيكية . وهي تجربة تسعي سعيا حسيسا في اتجاه مغاير بعض الشيئ حيث تسعي إلي استخدام الحرف العربي بشكله التراثي ثم محاولة تفريغه من حمولاته الدلالية والثقافية الموروثة ، فاللوحات رغم استخدامها لكتابات خطية تراثية ، تظل هذه الكلمات في الأخير دون معني يفهم فتظهر بصوره مفرغة من المعني وإن أعطت إلي حد ما الصورة التقليدية لفن الخط العربيوإذا كانت هذه التجربة علي الصعيد التقني هي نوع من اللعب أو المحاكاة الساخرة لتاريخ فن الخط العربي فإنها علي الصعيد المضموني محاولة لنقد الموقف السياسي العربي . فإذا كان تمسك الفنانون الخطاطون الأوائل بقيمة المعني في لوحاتهم الخطية ناتجا عن اعتقادهم الشخصي في سلطة الحرف العربي في الحقب المبكرة من تاريخ الإسلام ، فإن تفريغ الكلمة العربية من المعني في لوحاتي كفنان عربي معاصر راجع بطبيعة الحال إلي اقتناعي الشخصي بعدم وجود معني للـ ( الكلمة العربية) في ظل هوان سياسي نعيشه في مجتمعنا الحديث
.

..::: جميع الحقوق محفوظة كافة المواد المنشورة في هذا الموقع محفوظة ومحمية بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية لا يجوز نسخ هذه المواد أو إعادة إنتاجها أو نشرها أو تعديلها أو اقنباسها لخلق عمل جديد أو إرسالها أو ترجمتها أو إذاعتها أو إتاحتها للجمهور بأي شكل دون الحصول على إذن كتابي مسبق :::.. Copyright © Hassan Hammad 2006